أثناء جمعي لمادة هذا المَقَال مِنْ كتب الآثار والسير وغيرها؛ كانت تمرّ عليّ آثارٌ
أجدني مضطراً للوقوف عندها طويلاً مُعْجباً ومندهشاً مما فيها:
- مِنْ فقهٍ سليمٍ لحقيقةِ الحجِ وَمقصدِهِ وَحكمتهِ وَغَايتهِ.
- ومِنْ قوةٍ في العَبادةِ، وَصدقٍ في الالتجاء، والانطراحِ بين يدي الربّ سبحانهُ
وَتعالى.
- ومِنْ صفاء أرواحٍ تستشعرُ قربها مِنْ الله في هذه الشعيرةِ العظيمةِ.
- ومِنْ إخاء ومحبة وبذل وعطاء...
وَمَا مَثَلي وَمَثل هذه الآثار إلاّ كرجلٍ دَخَلَ حَدِيقَةً ذات بهجة، تأسر الناظر
بكثرة ورودها المتنوعة، ورائحتها الجميلة، ويحتار المرء فيما يختار من هذه الورود التي
فيها.. فالكلّ جميل، وإنْ كان بعضها أفضل من بعض ـ.
وأنتَ واجدٌ هذا الاستشعار لحكمة الحج من لدن سلفنا الصالح منذ أوَّل لحظة يُحْرمون
فيها بالحج.. إلى أن يطوفوا طواف الوداع.
وكلٌّ يتعبد الله بما يُسّر له بما لا يخرج عن دائرة اتباع هدي رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-، وكذلك صحابته الكرام.
فمن السلف من يُسِّر له الصلاة.. ومنهم من يُسِّر له الإكثار من الحج والعمرة، ومنهم
من يُسِّر له الذكر والدعاء... والعلم.. والدعوة.. والبكاء من خشية الله.. والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وهذا يعود إلى فقه المرء بنفسه وطاقتها وميلها.. وهذا الفقه مطلوبٌ
شرعاً.
وأعظم ما تلمس في هذه الآثار الواردة في الحجّ:
- عنايةُ السّلف بالتوحيدِ.... ونبذ الشرك:
نعم! لا فائدة من حجٍّ لا يقوم على التوحيد.. ونبذ الشرك..
إنّ مَنْ يقول ـ وهو متلبس بشعيرة من أعظم الشرائع ـ: «مَدَداً يا رسولَ الله» أو «مَدَداً
يا علي».. أو يذبح لغير الله، ويتوسل بالأولياء والصالحين.. ويدعوهم من دون الله..
لم يستشعر أنّ الحج شُرع في الأصل لتوحيد الله عز وجل، قَالَ ـ تعالى ـ: {وَإذْ بَوَّأْنَا
لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].
فللتوحيدِ أُقيمَ هذا البيت مُنذُ أوَّل لحظة عرَّف الله مكانه لإبراهيم عليه السلام،
وملَّكه أمره ليقيمه على هذا الأساس: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا}.
وقال ـ تعالى ـ في سياق آيات الحج: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ
تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
وفي القرآن الكريم سورة تُسمّى «سورة الحج»، كلها تتحدث عن التوحيد والعبادة، ونبذ
الشرك بجميع صوره، وتنعى على أولئك الذين يعبــدون غــير الله تعالى، أو يدعــون مــن
دونــه مـا لا يضرهم ولا ينفعهم، بل يدعون مَن ضَرُّه أقرب من نفعه.
وفي حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ: «ثم أهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك،
لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك»(1).
ومما يُشرَعُ في يوم عرفة الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاصٍ وصدقٍٍ، ففي حَدِيثِ عَمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده قَالَ: كانَ أكثر دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم
عرفة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده الخير، وهو على
كل شيء قدير»(2).
ومما تلمس في هذه الآثار أيضاً:
- تعظيم حرمات الله:
وهذا التعظيم امتثال لأمر الله ـ عز وجل ـ في قوله في سياق آيات الحج: {ذَلِكَ وَمَن
يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30]. فهل عظَّم
حرمات الله من واقعها وفي الحج أيضاًَ؟!
كم نرى في الحج من أخلاق وأفعال لو صدرت من غير الحاج لاستُنكرت؛ فكيف بالحاج؟!
فيا حجاجَ بيتِ الله! حُجّوا كَما حَجَّ الصالحون؛ بدءاً من إمامِ الصالحين المتقين
رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم صحابته الكرام، ومن تبعهم بإحسان من سلفنا الصالح..
لا أطيل عليك ـ أيها القارئ الكريم ـ وأدعك تعيش مع حج الصالحين... علّك تضع لك منهجاً
علمياً وعملياً مستفيداً من سِيَر هؤلاء الصالحين وأخلاقهم وأعمالهم...
1 - قَالَ مجاهد: قَالَ رجلٌ عند ابنِ عُمر ما أكثرَ الحاج! فقالَ ابنُ عمر: ما أقلهم!
قَالَ: فرأى ابنُ عُمَر رَجلاً عَلى بعيرٍٍ عَلى رَحلٍٍ رَثٍّ خطامه حبل، فَقَالَ:
لعلَّ هذا(3).
2 - قَالَ الجريري: أحرم أنس بن مالك من ذات عرق، قَالَ: فما سمعناه متكلماً إلا بذكر
الله حتى حلّ، فَقَالَ له: يا ابن أخي هكذا الإحرام(4).
3 - قَالَ منصور بن المعتمر: «كَانَ شُرَيح ـ هو: ابن الحارث القاضي ـ إذا أحرمَ كأنَّه
حَيةٌ صمَّاء»(5).
قَالَ ابن قدامة ـ تعليقاً على قول أبي القاسم الخرقي: «ويستحب له قلة الكلام إلا فيما
ينفع، وقد روي عن شريح أنه كان إذا أحرم كأنه حية صمّاء»: (وجملة ذلك أن قلة الكلام
فيما لا ينفع مستحبة في كل حال صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع في الكذب وما لا يحل،
فإنَّ مَنْ كثر كلامه كثر سقطه. وهذا في حال الإحرام أشدُّ استحباباً؛ لأنه حال عبادة
واستشعار بطاعة الله ـ عز وجل ـ فيشبه الاعتكاف، وقد احتج أحمد على ذلك بأن شريحاً
ـ رحمه الله ـ كان إذا أحرم كأنه حية صماء، فيُستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية وذكر
الله تعالى، أو قراءة القرآن، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو تعليم لجاهل، أو يأمر
بحاجته أو يسكت، وإن تكلم بما لا مأثم فيه أو أنشد شعراً لا يقبح فهو مباح ولا يُكْثِر)(6).
4 - قَالَ أبو إسحاق السبيعيّ: «حَجّ مَسروقٌ ـ هو: ابن الأجدع ـ فَمَا نَامَ إلاّ
سَاجداً»(7).
قَالَ ابنُ مفلح: «باتَ عند الإمام أحمد رجلٌ فَوَضع عنده ماء، قالَ الرجلُ: فلم أقمْ
بالليل، ولم أستعمل الماء، فلمَّا أصبحتُ قال لي: لِمَ لا تستعمل الماء؟ فاستحييتُ
وسكتُ، فقالَ: سبحان الله! سبحان الله! ما سمعت بصاحب حديثٍ لا يقوم بالليل. وجرت هذه
القصة معه لرجلٍ آخر، فقال: أنا مسافر، قالَ: وإن كنت مسافراً، حَجَّ مسروقٌ فما نام
إلاّ ساجداً. قال الشيخ تقيّ الدين: فيه أنه يُكره لأهل العلم ترك قيام الليل، وإن
كانوا مسافرين»(8).
5 - قَالَ محمد بن سوقة عن أبيه أنه حَجّ مَعَ الأَسْود، فكان إذا حضرت الصلاة أناخ
ولو على حجر، قَالَ: وَحَجَّ نيفاً وَسبعينَ(9).
6 - وقالَ ضمرةُ بنُ ربيعة: «حَججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة، فما رأيته مضطجعاً
في المحمل في ليل ولا نهار قط، كان يصلي، فإذا غلبه النوم استند إلى القتب»(10).
7 - قَالَ الربيع بن سليمان: حججنا مع الشافعي، فما ارتقى شرفاً ولا هبط وادياً إلا
وهو يبكي وينشد:
يا راكباً قف بالمحصب من منى واهتف بقاعد خيفنا والناهضِ
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى فيضاً كملتطم الفرات الفائضِ
إن كان رفضاً حب آل محمدِ فليشهد الثقلان أني رافضي(11)
8 - قَالَ خيثمة: «كَانَ يعجبهم أن يموتَ الرجلُ عند خير يعمله؛ إما حج، وإما عمرة،
وإما غزوة، وإما صيام رمضان»(1).
9 - قَالَ ابنُ المبارك: جئتُ إلى سفيان الثوري عشية عرفة، وهو جاثٍ على ركبتيه، وعيناه
تهمِلان، فالتفت إليَّ، فقلت له: مَنْ أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قَالَ: الذي يظنُّ أن
الله لا يغفر لهم(2).
10 - وروي عن الفُضَيل أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشيَّة عرفة، فقال: أرأيتم لو
أن هؤلاء صاروا إلى رجلٍ فسألوه دانِقاً ـ يعني: سدس درهم - أكان يردُّهم؟ قالوا: لا.
قَالَ: والله! لَلْمغفرة عند الله أهون من إجابة رجلٍ لهم بدانِق.
وكان للسلف عناية بكثرة الحج:
11 - قَالَ إبراهيمُ النخعـيّ عن الأسـود بن يزيد قَالَ قَالَ عبدُ الله بنُ مسعود:
«نُسُكان أحبّ إليَّ أنْ يكونَ لكل واحدٍ منهما: شعثٌ وسفرٌ»، قَالَ: فسافر الأسود
ثمانين ما بين حجة وعمرة لم يجمع بينهما، وسافر عبد الرحمن بن الأسود ستين ما بين حجة
وعمرة لم يجمع بينهما(3).
12- وقال ابنُ شوذب: «شهدتُ جنازة طاوس بمكة سنة ست ومائة، فسمعتهم يقولون: رحمك الله
يا أبا عبد الرحمن! حَجَّ أربعين حجة»(4).
13 - قَالَ أبو إسحاق السبيعيّ: «جمع الأسود بن يزيد بين ثمانين حجة وعمرة، وجمع عمرو
بن ميمون بين ستين حجة وعمرة»(5).
14 - قَالَ الحسنُ بنُ عمران ـ ابن أخي سفيان بن عيينة ـ: حججتُ مع عمي سفيان آخر حجة
حجَّها سنة سبع وتسعين ومائة، فلمَّا كنا بجمع وصلى استلقى على فراشه ثم قَالَ: قد
وافيتُ هذا الموضعَ سبعين عاماً، أقولُ في كلّ سنة: اللهم! لا تجعله آخر العهد من هذا
المكان، وإني قد استحييتُ مِنْ الله من كثرة ما أسأله ذلك، فرجع فتوفي في السنة الداخلة
يوم السبت أول يوم من رجب سنة ثمان وتسعين ومائة، ودُفن بالحجون... وتوفي وهو ابن إحدى
وتسعين سنة(6).
وممن ذُكر أنه حجّ أكثر من أربعين حجة: سعيد بن المسيب(7)، عطاء بن أبي رباح(8)، ومحمد
بن سوقة(9)، وبكير ابن عتيق(10)، وابن أبي عمر العدني(11)، سعيد بن سليمان(12)، جعفر
الخلدي(13)، العباس بن سمرة أبو الفضل الهاشمي(14)، وأيوب السختياني(15)، وهمام بن
نافع(16).. وغيرهم كثير.
ومن المعاصرين سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز ـ عليه رحمة الله ـ وغيره.
قلتُ: والأصلُ أنَّ كثرةَ الحج والعمرة مرغبٌ فيها شرعاً، ففي حديث عبد الله بن مسعود
قَالَ: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان
الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب
إلا الجنة»(17).
وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قَالَ سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
«مَنْ حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»(18).
وعنه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «العمرة إلى العمرة
كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»(19).
وقال أبو غالب: قَالَ لي ابنُ عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «أَدْمِن الاختلافَ إلى هذا
البيت، فإنك إنْ أدمنتَ الاختلافَ إلى هذا البيت؛ لقيتَ الله ـ عز وجل ـ وأنت خفيف
الظهر»(20).
فيا أخي: لا تغلب على الحج إلاّ من عُذر، فالعمر قصير، والفُرص لا تعوّض، وهذا هدي
الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصالحين وحسبك!
نعم! ربما يكون هناك مصالح تقتضي عدم الإكثار من الحج، ولكن هذه المصالح لا يقررها
إلاّ العلماء العارفون بالكتاب والسنّة.
(1) رواه مسلم.
(2) رواه: الترمذي في سننه، (5/ 572)، رقم (3585)، وأحمد بن حنبل في مسنده، (2/210).
وقال الترمذي: «هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، وحماد بن أبي حميد هو محمد بن أبي حميد،
وهو أبو إبراهيم الأنصاري المديني، وليس بالقوي عند أهل الحديث». قلتُ: وللحديث شواهد
لعله يتقوَّى بها، وخاصةً أنَّ الحديث في باب الترغيب.
(3) أخرجه: عبد الرزاق في المصنف، (5/19).
(4) الطبقات الكبرى، (7/22).
(5) الطبقات الكبرى، (6/141).
(6) المغني، (3/135).
(7) الطبقات الكبرى، (6/79)، مصنف ابن أبي شيبة، (7/148)، مسند ابن الجعد، (1/79)،
حلية الأولياء، (2/95).
(8) الآداب الشرعية، (2/169).
(9) الطبقات الكبرى، (6/72).
(10) تاريخ مدينة دمشق، (35/195)، سير أعلام النبلاء، (7/119).
(11) سير أعلام النبلاء، (10/58).
(12) حلية الأولياء، (4/115).
(13) حسن الظن بالله، (ص92).
(14) مصنف ابن أبي شيبة، (3/291).
(15) العلل ومعرفة الرجال، (2/463).
(16) الثقات، لابن حبان، (4/31)، مصنف ابن أبي شيبة، (7/157)، التاريخ الكبير، لابن
أبي خيثمة، (3/62).
(17) الطبقات الكبرى، (5/497)، المجالسة، للدينوري، (3/218).
(18) حلية الأولياء، (2/164).
(19) تاريخ ابن معين، (رواية الدوري)، (3/276).
(20) حلية الأولياء، (5/6).
(21) الطبقات الكبرى، (6/347).
(22) سير أعلام النبلاء، (12/97).
(23) ميزان الاعتدال، (3/208).
(24) تاريخ بغداد، (7/230).
(25) تاريخ مدينة دمشق، (26/253).
(26) حلية الأولياء، (3/5)، سير أعلام النبلاء، (6/21).
(27) التاريخ الكبير، للبخاريّ، (8/237)، الثقات، لابن حبان، (7/586).
(28) أخرجه: الترمذيّ في سننه كتاب الحج، باب: ما جاء في ثواب الحج والعمرة، والنسائي
في سننه كتاب الحج، فضل المتابعة بين الحج والعمرة، وابن أبي شيبة في المصنف، والبزار،
وأبو يعلى، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وغيرهم، قَالَ الترمذي: «حديثُ ابن مسعود
حديثٌ حسن صحيح غريب».
(29) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه والترمذي، إلا أنه قَالَ: «غفر له ما تقدم
من ذنبه».
(30) رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.
(31) أخبار مكة، (1/ 411)، رقم (886).