لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
أريد ليسمع المسلم منها ما ينبغي أن يقرأه بين أكنافها، وما يستشعره في أجوائها، وما
يحسه من موجات مترددة مبثوثة بينه وبينها.. بل أريد ليدرك المسلم ما أودعه الله في
المشاعر من معان وأسرار، وما أفاضه عليها من مؤثرات تجلو النفس كما يجلو الليلَ النهارُ.
أريد لتقف على ما لو أُذن لها أن تتكلم لتكلمت به، بل أريد لأشنِّف آذانك بمقالاتها
فيَّ وفيك، وفي الأمة، وفيما يلفنا من نوازل الحال..
أريد ـ بل أرجو ـ أن أبلغك ذلك ـ أيها القـارئ الكريم ـ ولو لم تتكلم المشاعر بكلمة
واحدة؛ فكيف إذا استنطقتها لك، وأسمعتك ما عساها قائلته؟!
ولعلك تعجب وتتساءل: ولكن هل تتكلم الجمادات؟ ألها منطق وبيان؟ أتفصح عن معان قائمة
بها ـ أو في غيرها ـ؟ وهل يكون لإفصاحها دلالات مفهومة معقولة؟ ثم هل يمكن أن يدرك
بنو آدم هذه الدلالات، ويستفيدوا من تلكم المعاني؟
أمَّا كونها تتكلم أو لا.. فذلك في علم الله جل وعلا، وإن كان أصل تكلمها غيرَ ممتنع
عليه، لقوله - عز وجـل - فيما حكاه عن أشباه الجمادات: {وَقَالُوا لِـجُلُودِهِمْ لِمَ
شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ
خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت: 21].
قال الحافظ ابن كثير: «أي فهو لا يُخالف ولا يُمانع وإليه ترجعون»(1).
وقال الطاهر بن عاشور: «وقولهم (الذي أنطق كل شيء) تمجيد لله تعالى، ولا علاقة له بالاعتذار،
والمعنى: الذي أنطق كل شيء له نطق من الحيوان، واختلاف دلالة أصواتها على وجدانها،
فعموم آية {كُلَّ شَيْءٍ} مخصوص بالعرف»(2).
وقال فخر الدين الرازي: «ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حالما
كنتم في الدنيا، ثم على خلقكم وإنطاقكم في المرة الثانية، وهي حال القيامة والبعث؛
كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء؟»(1).
فالله - تعالى - قادر على أن يُنطِق كلَّ شيءٍ (من الجماد وغيره)، ولا وجه لاستحالة
ذلك وامتناعه، ولا سيما مع ثبوت وقوعه من بعضها.
وليس إمكان تكلم المشاعر من عدمه يهمنا هنا في شيء، وإنما المقصود إثبات أن لها منطقاً
وبياناً يتمثل في المعاني القائمة بها، وهي إشارات وأمارات تَقُومُ بكل شيء، «وتلك
الأمارات تسمى شهادات، كما يقال: يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه»(2).
وقد ثبت تكلم بعض الجمادات، بل وصدور أفعال عنها تدل على عقلانيتها، وأنها ذات مشاعر
وأحاسيس، كتسليم الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسعي الشجرة إليه ومثولها
بين يديه، وحنين الجذع إليه، وقد خاطب النبي صلى الله عليه وسلم جبل أحد فقال: «اثبت
أحد؛ فإنما عليك نبي، وصدّيق، وشهيدان»(3).
فلو أُذن للمشاعر المقدسة أن تتكلم؛ لوافتنا بكثير من تلكم المعاني القائمة بها، بل
والقائمة بغيرها، وهي معان تتضمن كثيراً من حِكم الشعائر المرتبطة بتلك المشاعر.
وإن الوقوف على تلكم الحِكَم ـ وهن غايات نافعات غاليات ـ لهو مقصود رئيس لما أُمرنا
به من تعبد ونسك، وما نُدبنا إليه من خشوع وتفكر، وخاصة عند المشاعر المحرمات، وحول
المقدسات المباركات.
فلولا تدبرنا هذه الإشارات النافعات، وهاتيك اللطائف المرققات.. {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ
شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
فيا أمة الإسلام..!
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
إخال الكعبة (بيت الله الحرام) تهتف بجموع الطائفين والقائمين حولها، الراكعين الساجدين
في حرمها.. تقول:
أيها المسلمون الآتون من كل فج عميق!.. هذه قبلتكم قبلة واحدة، وإن هذه أمتكم أمة واحدة؛
فبأي مقتضى شرعي تنازعتم؟ وبأي موجب علمي تخالفتم؟ وبأي منطق عقلي تفرقتم، وأنتم هنا
حولي تجتمعون، بل وحيثما كنتم فإليَّ تتوجهون، وشطري تيمِّمون؟!
أما علمتم أن في مخالفتكم ما أمرتم به من الاعتصام بحبل الله جميعاً ذهابَ ريحكم؟ وقد
قال ـ تعالى ـ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
وأن فيها ضياع هيبتكم، وتسلط عدوكم عليكم، ولا يسلط الله عليكم عدواً حتى تكونوا أنتم
المتسلطين على أنفسكم.. فإن هذه الأمة المرحومة قد خصها الله أن لا ينتصر عليها عدوٌ
من غيرها، ولكن يهلك بعضهم بعضاً ويظلم بعضهم بعضاً، ففي الحديث الصحيح الذي يرويه
ثوبان ـ رضي الله عنه ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «وإني سألتُ ربي لأمتي أنْ
لا يهلكَها بسَنَةٍ عامة، وأن لا يُسلِّط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيحَ بيضتهم،
وإنَّ ربي قال: يا محمدُ، إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُرد، وإنِّي أعطيتك لأمتك أن
لا أهلكَهم بسَنة عامة، وأن لا أسلِّطَ عليهم عدواً من سوى أنفسِهِمْ يستبيح بيضتهم،
ولو اجتمعَ عليهم مَنْ بأقطارها ـ أو قال: مَنْ بين أقطارها ـ، حتى يكون بعضُهم يُهلك
بعضاً، ويسبي بعضُهم بعضاً»(4).
وواضح من الحديث: أن هذه الأمة المختارة لا تزال في عصمة من غلبة عدوها عليها ما بقيت
متحدة مجتمعة، حتى إذا صار بأسها بينها، يقتل بعضها بعضاً؛ سُلط عليها عدوٌ من غيرها
فاستباح حرماتِها!!
أيها الماثلون بين يدي الله، الميمِّمون شطري:
لقد آن لكم أن تتحركوا كأمة.. أن تتفاعلوا مع قضاياكم كأمة.. أن تواجهوا عدوكم كأمة
… كما أنكم تجتمعون عندي كأمة، وتتوجهون إليَّ كأمة، واعلموا أنه ليس لتحرككم أحزاباً
من جدوى تستنقذكم مما هو نازل بكم.. {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4].
أيها المسلمون المقدِّسون لحرمتي:
أما إن حرمتي عند الله لعظيمة، وإن حرمة دم المسلم أعظم عند الله من حرمتي، وإنكم إن
حرَّمتموني حقاً؛ حَرَّمتم دم المسلم وصنتم حرمته، ولتترستم بقلوبكم وأرواحكم وفلذات
أكبادكم دون أن يُخلص إليها أو تهلكون.. فكيف إذا كان منكم من يستبيحها، أو يعين عليها
ولو بشطر كلمة؟!
وأَرْدَفَتْ: أما إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم
هذا، في بلدكم هذا.
فكأني بها تردد أصداء نداء النبي صلى الله عليه وسلم (في حجة الوداع)، تُرَجِّعه اليوم
من وراء أربعة عشر قرناً أو يزيد.
ثم بصوت متهجد جعل يرتفع شيئاً فشيئاً، مدوياً يلف أركان الوادي المبارك، تُأوِّبه
جبالُ مكة وشعابها، تصرخ الكعبة بالجموع وكأنها منذر جيش:
أيها المُحْرِمونَ المُحَرِّمونَ لأكنافي: ألستم تُسألون عن أكناف شقيقي الأقصى بالوادي
المقدس؟! إن أكنافه تستباح هناك.. فأزيلوا عنه دنس المعتدين ورجس الغاصبين.. أجل يا
أتباع الخليل عليه السلام، وهو الذي استجاب لربه إذ قال له: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، وإن تحريم الحرمات لا يتجزأ..
{ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج:
30].
ويزداد صوت الكعبة تهجداً وارتفاعاً؛ بينما يتعالى نحيب الجموع وبكاؤها، وتنهمر دموعهم
تفيض بها مآقيهم فتسيل أودية بقدرها، وتسري في الأبدان قشعريرة خشوع خاصة نادرة، ويغمر
الأجواءَ عبق من الإيمان والجلال، وفي هذه اللحظات تمطر السماء من رحماتها، فيتعانق
البكاءان في مشهد جنائزي حزين، وفي خلفية المشهد تبرز صورة الأقصى تتوسط صفحة الأفق،
وقد أقبل مضرجاً في دمه، وحوله يظهر مستشهدون يلتفون به، وهم يبسطون أيديهم بأرواحهم
على أكفهم، يتلقون عنه سهام العدوان والغدر معاً، وبصدور عارية وأيد خاوية، فيكتمل
المشهد ـ وقد توسطه المسجدان (الحرام والأقصى) ـ دموع منهمرة هنا، ودماء منسكبة هناك..
وشتان شتان.
لكني أريت جموعاً انطلقت تجأر إلى ربها، مختنقة بالبكاء، تكاد تغص بدموعها، وقد بدوا
في ملابس إحرامهم وكأنهم متلفعون بأكفانهم تهيئاً للقاء الموت، يقولون: لبيك اللهم
لبيك.. ثم لبيك فلسطين لبيك.. لبيك كلَّ موضع لنا فيه حرمة لبيك.
وأضافت الكعبة: و «إنما الحج جهاد كل ضعيف» كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
هُيئ إليَّ الحجرُ الأسود يهمس في آذان مستلميه ومُقبِّليه، يقول: أما إني سفير الجنة
إليكم أهل الأرض لو تعلمون، أتعجبون؟! فارجعوا إلى ما ثبت عن نبي الإسلام العظيم ـ
عليه صلوات وتسليمات الرحيم الكريم ـ: «الحجر الأسود من الجنة»(2). أجل أنا مجرد حجر
من أحجارها، وهناك فيها أصل موطني.. فيا مستلمي ومقبلي! ألا تحب أن تقطن في موطني؟!
فحيّ عَلى جناتِ عَدنٍ فإنها
منازلُك الأُولى وفيها المخيمُ
ولكننا سبيُ العدوِّ فهلْ ترى
نعود إلى أوطاننا ونسلمُ؟
وأيُّ اغتراب فوق غربتنا التي
لها أضحتْ الأعداء فينا تحكمُ؟
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى
وشَطَّتْ به أوطانه.. ليس يَنعمُ
فمِنْ أجل ذا لا يَنعمُ العبد ساعة
مِنَ العمر، إلا بعد ما يتألمُ(3)
وأردف الحجر: يا عبد الله!
أتدري أنك باستلامي تبايع على طاعة الله - جل وعلا -؟! {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ
الْـمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْـجَنَّةَ} [التوبة:
111].. فلا ألفينك ـ أيها المبايع ـ من {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ
بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ
فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْـخَاسِرُونَ} [البقرة: 27]، وكن من {الَّذِينَ يُوفُونَ
بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْـمِيثَاقَ} [الرعد: 20].
ثم جعل يرتل ـ وبصوت ملائكي مجلجل ـ:
{فَمَن نَّكَثَ فَإنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ
اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10].
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
هُيئ إليَّ الملتزم ـ كذلك ـ يُسِر إلى كل ملتصق به ضام له، يقول: أهو طلب القرب حباً
وشوقاً للبيت ولرب البيت؟ فإن يكن ذا فإن للحب برهاناً قطعياً، ودليلاً ساطعاً جلياً..
{قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31].
تعصي الإله وأنت تزعم حبه
هذا ـ لعمري ـ في القياس شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
ü ü ü
فحيهلا ـ إن كنت ذا همة ـ فقد
حدا بك حادي الشوق فاطْوِ المراحلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم
إذا ما دعا: لبيك ألفاً كواملا
ذلك بينما الجموع تردد: لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك..
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
كأني بمقام إبراهيم ـ عليه السلام ـ وقف في القائمين حوله واعظاً ـ والناس ينصتون في
خشوع ـ:
يا أيها الناس! اعبدوا الله ولا تشركوا به أحداً.. أسلموا له وحده، وانقادوا إليه وحده،
وتحاكموا إليه وحده، واركنوا إليه وحده، وتوكلوا عليه وحده.. {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ
حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ
مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْـمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي
هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ
فَنِعْمَ الْـمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].
واعلموا أن الولاء والبراء هو معقد الإيمان الأكبر، فالزموا مقام الخليل ولاء وبراء،
كما لزمتموه شعيرة ونسكاً: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ
مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ
أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ
لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا
وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ الْـمَصِيرُ} [الممتحنة: 4].. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّـمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن
يَتَوَلَّ فَإنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْـحَمِيدُ} [الممتحنة: 6].
واستطرد قائلاً: ألا إن قيامكم مقام إبراهيم برهان منكم بذلتموه، فهو حُجة لكم أو عليكم،
ألا فتخيروا لأنفسكم.. ملة أبيكم إبراهيم، أو ملل المتألهين الطاغين، كالنمرود في عصره،
وكأشباهه في عصركم، فإن شئتم أن تستبينوا أي السبيلين تسلكون؛ فانظروا في أي المعسكرين
أنتم، وفي أي الخندقين تخندقتم!!
ألا وإن الكلمة، مجرد الكلمة، تقولونها نصرة للأمة أو لأعدائها؛ فيصل في اختياركم،
فليحذر امرؤ على نفسه، وليدَعْ قول الزور والعمل به؛ فإن الله قد قرن النهي عنه بالنهي
عن رجس الأوثان (وخاصة في حقكم أيها الحجيج).. فقال - جل وعلا -: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ
مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ
بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ
أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 30 - 31].
ثم بدا لي «المقام» وكأنه يردد نداء الخليل - عليه السلام ـ امتثالاً لأمر ربه - جل
وعلا -: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْـحَجِّ } [الحج: 27]، قال: ربّ! وما يبلغ صوتي؟
قال: أذِّن وعليَّ البلاغ(1)، فأردف المقام: فأَذِّنوا ـ أيها الناس ـ في الناس بالحج،
بل أذِّنوا بشرائع الإسلام كافة، أذِّنوا في الناس بنصرة الدين، وبمعاداة المشركين..
خذوا بأسباب الغلبة والتمكين، وإن لم تكافئ أسباب المعتدين، عليكم المستطاع، وعلى الله
ما لا يُستطاع.
ثم طفق المقام يردد: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب
وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون..
وضجت الجموع تستغيث ربها.. وامتدت الأكف ضارعة إلى بارئها: اللهم منزلَ الكتاب، مجريَ
السحاب، هازمَ الأحزاب.. اهزمهم وانصرنا عليهم.
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
خِلْتُ جبلَي الصفا والمروة يتناوبان الوعظ والتذكير ـ يخطبان في الساعين بينهما ـ:
يقول الصفا:
ألا فتذكروا أن التي أنشأت أصل هذا السعي هاجر عليها السلام؛ ذلك حينما أخذتها الشفقة
برضيعها وهو يصرخ جوعاً وعطشاً، وأرادت أن ترد عنه الهلاك الذي يحدق به....
فتوجهت إلى الله ربها ورب كل شيء، موقنة أنه ـ جـل وعـلا ـ لا يضيعها، وهو ما أكدته
لإبراهيم عليه السلام؛ ذلك حين أجابها أن نعم؛ إذ سألته: آلله أمرك بهذا؟ أي بتركي
هنا وحدي ورضيعي، وقد أزمع أن يهاجر استجابة لأمر الله.
قال المروة:
ففيما سعيكم - أيها الناس - إن لم يقابله سعي في إغاثة أطفال المسلمين الذين يتضورون
جوعاً، ويتوجعون مرضاً، ويعانون عرياً وبرداً وتشريداً وضياعاً، وتسحق عظامهم الدبابات
والصواريخ، وتُطمر جثثهم تحت الهدم والتدمير، ومن ينج منهم من ذلك كله؛ يعش مهدداً
مستضعفاً مذعوراً.. يخاف أن يتخطفه الناس..
ويتمدد موضع السعي فيما بين الجبلين، حتى يضما بين كنفيهما خريطة الوطن الإسلامي كله،
فإذا هي المذابح والمظالم والأهوال، وأمة جسدها ممدد تكاد الدماء تغطيه؛ بينما عدوها
يتهيأ للإجهـــاز عليهــا، فاللهـــم ارفـع مقتك وغضــبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل
السفهاء منا!
قال الصفا:
وأنتنَّ إماءَ الله نساءَ المسلمين: أما لكُنَّ في هاجر مثلٌ وقدوة، وأنتنَّ تتمثلن
فعلها في سعيكن بيني وبين المروة؟ فكيف يستقيم أن تكون إحداكن حائلاً دون زوجها وإجابة
أمر ربها، ومهما يكن من أمر تعتذرن به؛ فإنه لن يكون أعظم من الحال التي تُركت عليها
هاجرُ ورضيعُها.
أيتها المقتديات بهاجر عليها السلام: ألا فانظرن كيف لو كانت هاجر بينكنّ، في زمانكنّ..
كيف يكون شأنها في توفية حق ربها، وحق أمَّتها، وحق زوجها، وحق ولدها، وحق نفسها؟ كيف
يكون اعتزازها بدينها، واحترامها لذاتيتها، والتزامها بهويتها، وتمسكها بعقيدتها؟..
كيف يكون اعتدادها بانتمائها.. في همومها، واهتماماتها، وهيئتها، وأنماط حياتها؟ كنّ
ـ يرحمكن الله ـ كما لو كانت هاجر بينكنّ؛ فإنها أولى بكنَّ وأنتنَّ بها أولى.
قال المروة ـ وقد توجه بحديثه إلى العموم ـ:
وإن سعيكم هذا ـ أيها الناس ـ غير مغن لكم عن سعيٍ هناك.. حيث الذب عن الأعراض، وحماية
المقدسات، وصون دين الأمة وقد استُهدفت منابعه، وحفظ عقيدتها وقد اتُخذت غرضاً..
فلا إخالكم ـ أيها المسلمون ـ إلا متزودين من هنا لهناك؛ وإلا فما أفادكم السعيُ شيئاً،
اللهم إلا إبراء ذممكم من نســككم هـــذا، ولكنهــا ـ والذي نفسي بيده ـ تبقى مشغولة
بما هو أولــى وأوجــــب، قــال ـ تعالى ـ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْـحَاجِّ وَعِمَارَةَ
الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِـمِينَ}
[التوبة: 19].
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
أريت بصيرتي ترمق الجمار الثلاث، تردد:
ارموا عباد الله.. ارجموا مواضع إبليس حين ظهر لأبيكم إبراهيم - عليه السلام - يريد
أن يفتنه.. ارجموه وأكدوا عداوتكم له ولحزبه.. ارجموه لتستحضروا أنكم لا تزالون أبداً
في معركة معه.
ارموا عباد الله.. ارجموا عدوكم لينكص ويخسأ، فإنه لم يزل يقطع عليكم كل خير، وقد توعدكم
أن يقعد لكم طريقكم إلى الله، كما حكى الله - تعالى - مقولته ـ لعنه الله ـ: {قَالَ
فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْـمُسْتَقِيمَ } [الأعراف:
16].
قلت: قال ابن جرير: «يقول: لأجلسن لبني آدم صراطك المستقيم؛ يعني: طريقك القويم، وذلك
دين الله الحق، وهو الإسلام وشرائعه.
وإنما معنى الكلام: لأصدن بني آدم عن عبادتك وطاعتك، ولأغوينهم كما أغويتني، ولأضلنهم
كما أضللتني»(1).
فأردفت الجمرات:
واعلموا أنه ـ لعنه الله ـ كما قعد بالصراط كله؛ قعد بكل باب من الخير مترصداً يتربص
بكم، وقد نصب لكم شباكه على كل طريق يحسبكم سالكيها، وفي الحديث: «إن الشيطان قعد لابن
آدم بأطراقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟
فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك؟ وإنما مثل المهاجر
كالفرس في الطول، فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، وهو جهاد النفس والمال، فقال:
تقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال؟ قال: فعصاه فجاهد»(2).
ألا فارجموه طرداً له.. وقطعاً لأمله.. وإرغاماً لأنفه.. وقصماً لظهره... وذلك كله
مرهون بمخالفتكم لأمره، وكفركم بوحيه، ورفضكم لوسواسه، وتحصنكم من أزِّه، واعتصامكــم
ـ بالله ـ من نزغه.
وأضافت الجمرات:
ارموا عباد الله.. ولا يفتننكم الشيطان أنكم قضيتم مناسككم؛ فإن من عباد الله من يرمي
ما لعله أكثر قبولاً عند الله من حصياتكم، ولعل حجراً واحداً في يد طفل يرمي به يهود:
أثقل عند الله ـ تعالى ـ من أحجاركم كلها، وأوجع لحزب إبليس من حصياتكم جميعها!!
ارموا عباد الله.. ارموا؛ فإن القوة الرمي.. «ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي،
ألا إن القوة الرمي»(3)، وإلا فلن تفهموا هذه حتى تصنعوا تلك!!
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
تمثلت عرفة (جبل الرحمة) وقد بدا كعرصات القيامة!! والناس فوقه في ازدحام منشغلون،
وهم ـ على اختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم ـ واقفون موقفاً واحداً.. إنهم ساعتئذ
ـ رغم الضراعة والابتهال.. رغم الاستغاثة والدعاء.. رغم البكاء والنحيب.. رغم الاستغفار
والندم ـ وجلون خائفون مترددون بين الرد والقبول!! وإنهم عما قليل ينصرفون، وقد انفض
الموقف العظيم، وتفرق الناس زمراً وأفراداً، والله أعلم بمنازلهم، غير أن التوبة معروضة
بعد، مفتوح بابها أمام المستدركين.. وليس ذلك يكـون يـوم الحـشر الأعظـم، فأدرك ـ يا
عبد الله ـ اليوم ما لا سعة لك فيه غداً.
ألا إن الفقيه كل الفقه لمن يفقه هذا المعنى فيتمثله بكل جوارحه، ويستغرق فيه بكل كيانه،
وتتلبس به مشاعره وأحاسيسه، فإذا هو راغب عن كل مبهج في الحياة، مقبل على عبادة ربه
لا مطلب له سواه، وفي الحديث الصحيح يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الحاجُّ:
الأشعثُ التَّفِلُ»(4). وهو الذي قد فرغ قلبه مستغرقاً في عبادة ربه.. حتى ليكاد يقال
له: (ولا تنس نصيبك من الدنيا)، بينما يحتاج غيره أن يقال له: ولا تنس نصيبك من الآخرة!!
وبدا عرفة لي ـ وكأنه لا يريد أن يُفَوِّت فرصة كهذه، وقد لحظ خشوعاً وإخباتاً يلف
المكان ومن فيه، ولمس رقة في القلوب تحكيها العيون الدامعة المغرورقة ـ يقول:
أيها الناس: عما قليل تضعون عنكم ثياب إحرامكم، ثم ما منكم أحد إلا وستوضع عليه أكفان
تضاهيها، غير أنه لا يَلبسُها بل يُلبسَها، ولا يملك أبداً أن يضعها..
وليؤتين بكل مُكَفَّنٍ إلى المسجد محمولاً مجبوراً، وقد كان يأتيه ـ أو لا يأتيه ـ
طوعاً مختاراً، {إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ
عَبْدًا} [مريم: 93].. وكلٌّ مفض إلى ما قدم.. غير أنه لا حج لمن لا صلاة له!!
أيها الماثلون في الموقف العظيم فوقي:
أتــــدرون أن جبالاً دونـــي لا نصيب لها من قـداســـتي، ولا ارتباط لها بشعيرة أو
نسك مثلي.. أتدرون أن فوقها الآن متنسكين عابدين، ربما لا تبلغ أجورُكم أجورَهم؛ ذلك
أنكم تتنسكون آمنين، وهم يخافون أن يتخطفهم الناس.. وأنكم تتعبدون متنعمين، وتراهم
على الجمر قابضين.. وأنكم ترابطون لياليَ وأياماً راغدين، وهم يقضون حياتهم مرابطين.
فيا حجيج بيت الله الحرام:
أفقهتم بما سبقكم هؤلاء؟ ولمَ كان وقوفهم بجبالهم ربما يفوق موقفكم هذا؟ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ
مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إلاَّ كُتِبَ
لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِـحٌ إنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ} [التوبة:
120].
أيها الحجيج الملبُّون رغباً ورهباً:
بشراكم اليوم ـ وأنتم تودعونني.. بشراكم فلن تغادروا إلا وقد أجيب دعاؤكم، وأعطيتم
سؤلكم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحُجَّاج والعُمَّار وفْدُ الله، دعاهم
فأجابوه، وسألوه فأعطاهم»(1)، وكان حقاً على الكريم أن يكرم زائره؛ فكيف بضيف دُعيَ
فأجاب؟
لو تكلمت المشاعر.. فماذا عساها قائلة؟
سيق الهدي فكأني به يمتد امتداد التاريخ، ليغوص بالخاطر في أعماقه آلاف السنين، ومضحون
لا يُحصون عدداً يسوقونه فداءً وتضحية.. كلهم يقتدي بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام.
أتحسبون أن حكمة الأضحية تقف عند اللحم والدم؟ {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُـحُومُهَا وَلا
دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا
اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْـمُحْسِنِينَ} [الحج: 37].. إنما هي حسن
النية، وسداد التوجه، وصدق العزيمة.. وما اللحم والدم إلا لتجديد روح الفداء في نفوس
المؤمنين، ولتنشيط حب التضحية في قلوب السالكين، وكذلك كان درس الخليل إبراهيم عليه
السلام، فإنه لما استسلم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ لأمر الله ـ جل وعلا ـ: {فَلَمَّا
أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]، وعلم الله صدق توجههما للتضحية ـ
على جسامتها ـ {وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إبْرَاهِيمُ ( 104 ) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَا
إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْـمُحْسِنِينَ (105) إنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْـمُبِينُ}
[الصافات: 104 - 106]، وهو اختبار كبير نجح فيه النبيان الكريمان وبكل جدارة، فعافاهما
الله ـ تعالى ـ من الذبح، ونقلهما إلى سنة الهَدي {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}
[الصافات: 107]، ليبقى ذلك خطاً واصلاً بين أتباع الحنيفية، وبين التضحية في أسمى معانيها
وأبلغها، وليكون هذا الخط سبيلاً يمدهم بمزيد من جرعات إكسير روح الفداء؛ لأنه لا عزة
لهم بدونها..
إن أمة نضبت بها روح الفداء
ماتت وما يغني هشيم أو غثاء
فالأرض قفر إن حبست مياهها
ويموت حق لا تروِّيه الدماء
أيها السائقون الهَدي:
ترى كم يقع ترتيبكم في «طابور» المضحِّين؟ وكم من مسافة بينكم وبين عجوز تتقدمكم بالملايين؛
ذلك حين تجلس تنصت إلى وليدها يتلو عليها وصيته الأخيرة، قبل أن يغادرها بلحظات، تعرف
أنها لن تراه ثانية في هذه الحياة، ويصبح فؤادها فارغاً؟! وكم من مسافة بينكم وبين
عروس تتجهز لليلة عمرها، فإذا بها تتحول عن سعادة الدهر لتتجهز للحظة استشهادها؟! وكم
من مسافة بينكم وبين طفل يواجه دبابة بحجر، ويتصدى لمجنزرة بنبل صغير؟! وكم من مسافة
بينكم وبين شيخ فان، يعرض عليه الغاصبون أموالاً طائلة ليترك بيته وأرضه في فلسطين،
فيجيب بحكمة بليغة تختزل البراهين كلها في كلمات.. يقول: يمكنني أن أعطيكم البيت لو
جئتموني بأمر يسير: وثيقة تنازل عنه، وقد وقَّع عليها المسلمون جميعاً، ليس في هذا
الجيل وحسب، بل في كل أجيال المسلمين إلى يوم القيامة؟! ويبقى الشيخ وأمثاله من الصادقين
الصابرين رغم الهدم والحصار!!
وبعد..
أيها المسلمون حجيج بيت الله الحرام:
ألا ناشدتكم الله! أن تكونوا طليعة الأمة إلى تغيير ما بنا.. عودوا إلينا كما ولدتكم
أمهاتكم. وفي الحديث الصحيح: «من حج لله، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه»(2)،
وقد أمركم الله ـ جل وعلا ـ أن تجمعوا إلى الحج استغفاراً وتوبة، فقال: {فَإذَا أَفَضْتُمْ
مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْـمَشْعَرِ الْـحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ
كَمَا هَدَاكُمْ وَإن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَـمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا
مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
[البقرة: 198 - 199]؛ أي لتستقبلوا أيامكم بصفحة جديدة بيضاء، نزع منها كل ما أسلفتم،
حتى عدتم كيوم وُلدتم.
عباد الله:
ناشدتكم الله! أن لا تنسوا الأمة من دعائكم.. ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.. ادعوا
الله.. فإن الدعاء والبلاء بين السماء والأرض يعتلجان؛ لعل الله يرفع بدعائكم البلاء
قبل أن ينزل.. ادعوا للأمة من أقصاها إلى أقصاها؛ فإن الأمة كلها في شدة وبلاء، نعم..
وخصوا المستضعفين من أصحاب النوازل الكبار بمزيد من الدعاء.. في فلسطين، وفي العراق،
وفي الشيشان، وفي أفغانستان، وفي جوجارات بالهند، وفي كشمير.. وفي كل مكان، وما من
مكان إلا ولنا فيه مستضعفون يتلمسون عندكم الدعاء.
عباد الله:
ناشدتكم الله! ـ وقد منَّ عليكم بما عدتم به كيوم وُلدتم ـ أن لا تسوِّدوا صفحاتكم
فيما تستقبلون بمساخط الله، ألا فأقلِعوا عن كل مُحرَّم، وذَرُوا كل مخالفة، والتصقوا
بكل فضيلة.. فإنه بمجموع مخالفاتنا، وبمجمل تهاوننا نزل بالأمة ما نزل، ولا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه
وسلم.
--------------------------------
(1) تفسير القرآن العظيم: (4/66) .
(2) التحرير والتنوير: (11/268) .
(1) التفسير الكبير: (14/118) .
(2) التفسير الكبير: (14/117) .
(3) أخرجه البخاري، رقم 3675.
(4) رواه مسلم في صحيحه، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، (2/2215)، حديث رقم: (2889)،
والمراد بالبيضة: جماعتهم وأصلهم، والبيضة ـ أيضاً ـ: العز والملك.
(1) حسن: رواه ابن ماجه، عن أم سلمة، وانظر الضعيفة: (3519)، وصحيح الجامع: (3171).
(2) صحيح: رواه الإمام أحمد عن أنس، والنسائي عن ابن عباس. وانظر: صحيح الجامع: (3174).
(3) مدارج السالكين، لابن قيم الجوزية، والأبيات له: (3/210).
(1) الأثر رواه ابن جرير في جامع البيان: (10/ 6162) برقم: (18935) ، وهو عند الحاكم
في المستدرك: (2/ 388، 389)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
(1) جامع البيان: (5/ 3648).
(2) رواه أحمد: (3/ 483)، والنسائي: (6/ 21، 22)، وابن حبان: (4593 ـ الإحسان)، والطبراني
في «الكبير»: (7 / 138) برقم (6558) من حديث سبرة بن أبي فاكه رضي الله عنه.
(3) صحيح رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وانظر «فقه السيرة» بتحقيق الألباني:
(224)، والإرواء: (1500)، ومختصر مسلم: (1101)، وصحيح الجامع: (1219).
(4) حسن: رواه الترمذي عن ابن عمر، وانظر: المشكاة: (2527)، وصحيح الجامع: (3167).
(1) حسن: رواه البزار عن جابر، وانظر: الصحيحة: (1820)، وصحيح الجامع: (3173).
(2) رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه، وانظر: المشكاة: (2507)، وصحيح الجامع:
(6197).