عرفات يا رمز الأمة ، والرسالة ! عرفات كم وقفت بساحك جموع ، وسالت
على ثراك دموع ، وتعارف على راحتيك الناس ، وذابت في محيطك الأجناس ،
وبورك منكسر ورُدَّ شديد المراس . كم تعانقت فوقك قلوب ، وفرجت على ثراك
كروب ، ومحيت أوزار وذنوب . كم امتزجت فيك دموع المذنبين ، وتعانقت
أصوات المستغفرين ، وتوحدت رغبات الراغبين .. كم تجردت فيك النيات ،
وسالت على جنباتك العبرات ، وخشع أهل الأرض لخالق الأرض والسموات .
أيها المسلمون : كم تغلي قلوب أعدائكم حقداً ! ! وكم عضَّوا أناملهم غيظاً
وحسداً ! ! ] مَا يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ولا المُشْرِكِينَ
أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ
خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ [ [ البقرة 105] . هم يريدون أن يقطعوا دابر الدين كي تخور
القوى ، ويُتَبع الهوى ، وتَعُمُّ البلوى . كي لا يعز دين ، ولا يقوى يقين ، ولا يتم
تمكين .
كيف يُضْحِي بأسنا بيننا شديداً . وأملنا في العودة إلى المنبع الرائق بعيداً .
أيها الأحباب : إن الذي أمركم بالتلبية فلبيتم ، وبالحج فحججتم ، وبالوقوف
هنا فوقفتم هو الذي قال : ] وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم [ [الأنفال 60] . وتسلحوا
لهم
بالتقوى فمن أراد غنى بغير مال ، وعزاً بغير جاه ، ومهابة بغير سلطان فليتق الله .
فإن الله عز وجل يأبى أن يذل إلا من عصاه .
وتذكروا جيداً وصية نبيكم منذ ألف وأربعمائة عام يوم النحر في منى وهو
يقول ويقرر ، ويوصي ويحذر : ( فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم
هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم . ألا هل بلغت ؟ ) قالوا : نعم ،
قال : ( اللهم اشهد . فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع . فلا ترجعوا
بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) رواه البخاري .
فاذكروا ذلك جيداً - واعلموا أن الأمة التي تعمل بالمعاصي وتحيد عن أمر
الله تسقط وتنهار ، ولستم والله أفضل من سعد بن أبي وقاص - بطل القادسية
المبشر بالجنة ، السابق إلى الإسلام - ومع كل ذلك هذه وصية عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه- له وهو متأهب للمسير إلى القادسية حيث قال له : ( يا سعد ! ) ،
لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله وصاحب رسول الله . فإن الله عز وجل لا
يمحو السيء بالسيء ، ولكنه يمحو السيئة بالحسنة ، يا سعد ! إن الله ليس بينه
وبين أحد نسب إلا طاعته . فالناس جميعاً شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء .
الله ربهم وهم عباده ، يتفاضلون بالتقوى ، ويدركون ما عنده بالطاعة ) ، فكونوا -
رحمكم الله - على المؤمنين قلوباً صافية ، وعلى أعداء دينكم أسوداً ضارية .
أنسيتم أيها الأحباب غضبة رسولكم حيث أقسم ألا يبيت اليهود بالمدينة وقد
أنجز ذلك ، أنسيتم غضبة الهادئ الوديع الساكن أبي بكر حين زمجر وقال : ( والله
لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه ) .
أنسيتم غضبة نور الدين حينما وقع الأقصى أسيراً في أيدي الصليبية فظل
حزيناً عابساً ولما سأله سائل : ( لم لا تضحك ؟ ) قال : ( أستحي من الله أن أبتسم
والأقصى أسير في أيدي الأعداء ! ! )
والآن أيها الأحباب متى تُحَركُنا مصاحف تُحرق ، ومساجد تُهْدَم ، وأعراض
تُنْتَهَك ، وأطفال أطهار يداسون بالأقدام ، ودموع في عين القدس وكشمير والبوسنة
والهرسك وارتيريا والصومال وغيرها .
رُبَّ وامعتصماهُ انطلقت مِلءَ أفواهِ الصبايا اليُتَّمِ
لامستْ أسماعَهُمْ لكنَّها لم تلامِسْ نخْوةَ المعتصم
نريدها أمة جادة في القول والعمل ، إن قالت فبعلم ، وإن سالمت فبعلم ، وإن
حاربت فبعلم ، وإن قررت فبعلم ، ليست عابثة ، ولا لاهية ، ولا غافلة . يقول
يحيي بن معاذ -رحمه الله- : ( القلوب كالقدور تغلي في الصدور ، ومغارفها
ألسنتها . فانتظر الرجل حتى يتكلم فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه ، من بين حلو
وحامض وعذب ومالح . يخبرك عن طعم قلبه اغتراف لسانه ) .
روى البخاري عن عدي بن حاتم الطائي - رضي الله عنه - قال : ( وفدت
في وفد على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجعل يدعو رجلاً
رجلاً ويُسميهم ، فقلت : أما تعرفني يا أمير المؤمنين ؟ قال بلى ! ! أسلمت إذ
كفروا ، وأقبلت إذ أدبروا ، ووفيت إذ غدروا ، وعرفت إذ أنكروا ، فقال عدي : فلا
أبالي إذاً ) . فهذا رصيده وهذا مناط فخره ، ورأس ماله ، وقوام شخصيته .
إن الهمم العالية لا ترضى بالدنئ ولا تقنع إلا بمعالي الأمور :
قلت للصقر وهو في الجو عال اهبط الأرضَ فالهواء جديبُ
قال لي الصقر : في جناحي وعزمي وعنانِ السماءِ مرعىً خصيبُ
وهذا المرعى لا شك يجهله الأرضيون ، حيث ثقلة الأرض ومطامع الأرض . وتصورات الأرض ،
ثقلة الخوف على الحياة ، والخوف على المال ، والخوف
على اللذائذ ، والمصالح والمتاع ، ثقلة الدعة والراحة والاستقرار :
أتُسبى المسلمات بكل ثغرٍ وعيش المسلمين إذن يطيبُ ؟
أما لله والإسلام حقُّ يدافع عنه شبانٌ وشيبُ ؟
فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا اللهَ وَيْحَكُمُ أَجِيبوا