أجمع العلماء على أن فريضة الحج مرة في العمر لمن استطاع إليه سبيلاً ،
لقوله تعالى : ] ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً
[ [آل عمران : 97] . ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال : ( يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ) فقال رجل : أكل عام
يا رسول الله ؟ فسكت ، حتى قالها ثلاثاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو قلت
نعم لوجبت ولما استطعتم ) [1] .
وأجمعوا على أن من كان عليه حج وهو قادر على أن يحج بنفسه لا يجزئ
أن يحج عنه غيره ، وأن من لا مال له يستنيب به غيره فلا حج عليه [2] .
واختلفوا في المريض والمعضوب يكون كل واحد منهما قادراً على ما يستأجر
به من يحج عنه ، هل يجب عليهما في ذلك ؟ بعد إجماعهم على أنه لا يلزمهما المسير إلى
الحج ، إنما فرضه الله على المستطيع . ولا استطاعة لهما [3] . وكذلك اختلفوا فيمن مات
وعليه حج . هل يحج عنه أم لا ؟
* أما المريض والمعضوب : فقد ذهب جمهور أهل العلم منهم : علي بن أبي
طالب ، والحسن ، والثوري ، وابن المبارك ، وداود ، وابن المنذر ، والأئمة الثلاثة :
أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، إلى أنهما إذا وجدا مالاً ورجلاً يحج عنهما ، وجب الحج
عليهما [4] .
واحتجوا على ذلك بأدلة ، منها :
1 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان الفضل بن عباس رديف
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها
وتنظر إليه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ، قالت
:
يا رسول الله ! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا
يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ فقال : ( نعم . وذلك في حجة
الوداع ) [5] .
2 - وحديث أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
( إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن ، قال : ( حج عن أبيك واعتمر)
[6] .
* وذهب بعض أهل العلم إلى أن المعضوب لا يجب عليه الحج أصلاً وإن
ملك المال رُوي ذلك عن الليث والحسن بن صالح ، وبه قال الإمام مالك [7] وهو رواية عند
الحنفية [8] .
واحتجوا بالآتي :
1 - قوله تعالى : ] ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ
سَبِيلاً [
[آل عمران : 97] فالآية وردت مقيدة لمن يستطيع السبيل إلى البيت . فمن لم يستطع السبيل
إليه لم تتناوله الآية ، والاستطاعة صفة موجودة بالمستطيع كالعلم والحياة ، وإذا لم
توجد به استطاعة فليس بمستطيع فلا يجب عليه حج [9] .
2 - وقوله تعالى : ] وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى [ [النجم : 39] فأخبر
أنه ليس له إلا ما سعى ، فمن قال : إنه له سعي غيره فقد خالف ظاهر الآية [10] .
3 - قالوا : وأما حديث ( الخثعمية ) فهو مخالف لظاهر القرآن ؛ فيرجح
ظاهر القرآن [11] .
وقد أجيب عن هذه الأدلة مِن جانب الجمهور :
1 - الاستطاعة تكون بالغير كما تكون بالنفس . قال ابن رشد : ( وهي أي
الاستطاعة تتصور على نوعين : مباشرة ونيابة ) [12] .
2 - وعن الآية : ] وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى [ [النجم : 39] فقالوا
:
إننا نقول كذلك . ولكنه بذل ماله للنائب ؛ فكأن الحج أصبح من سعيه .
وقد نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ( إن هذه الآية منوطة
بقوله تعالى : ] والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا
بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [
[الطور : 21]
وقال أكثر أهل العلم : هي محكمة .
وقال الربيع بن أنس : هذه الآية في الكافر ، وأما المؤمن فله ما سعى وما
سعى له غيره ، وقال أبو بكر الوراق : ] إلاَّ مَا سَعَى [ إلا ما نوى [13] . وقيل غير
ذلك . وعلى أيٍّ كان الأمر فليس في الآية دليل للمالكية ومن معهم فيما ذهبوا إليه .
3- وأما القول بأن ظاهر حديث ( الخثعمية ) مخالف لظاهر القرآن فجوابه كما قال الحافظ
ابن حجر : ( وتعقب بأن في تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لها على ذلك حجة ظاهرة )
.
ويظهر من هذا أن قول الجمهور أقوى . والله أعلم .
* وأما من مات وعليه حِجة الإسلام أو قضاء أو نذر فإنه يجب أن يحج عنه
من جميع ماله أوصى أو لم يوص ويكون الحج عنه من حيث وجب عليه ، لا من حيث مكان موته
؛ لأن القضاء يكون بصفة الأداء . قال بهذا جماعة من أهل العلم منهم : ابن عباس ، وأبو
هريرة ، وابن المبارك ، وابن سيرين ، وابن المسيب ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وهو قول
الشافعي وأحمد [14] .
واحتج هؤلاء بالآتي :
1- حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقالت : ( إن أمي نذرتْ أن تحج فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟
قال : نعم ، حجي عنها ! أرأيت لو كان على أمكِ دين أكنتِ قاضيته ؟ اقضوا الله ؛ فالله
؛ أحق بالوفاء ) [15] .
2- وعنه رضي الله عنه قال : قال رجل : ( يا رسول الله ) ! إن أبي مات ولم حج . فأحج
عنه ؟ قال : أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه ؟
قال : نعم ، قال : فدين الله أحق ) [16] .
3 - ولأنه حق تدخله النيابة لزمه في حال الحياة فلم يسقط بالموت كديْن
الآدمي ، ويجب من رأس المال ؛ لأنه ديْن واجب ، فكان من رأس المال كديْن الآدمي [17]
.
* وذهب آخرون إلى أن من مات وكان قد وجب عليه الحج ولم يحج فإن
أوصى حُج عنه من ثلث التركة وإلا فلا يجب على الورثة شيء إلا أن يَطَّوَّعوا . قال
به النخعي والشعبي وحماد والليث في جماعة .
وبه قال أبو حنيفة [18] ومالك [19] ؛ لأن الميت ليس له حق إلا في ثلث
ماله ، ودين العباد أقوى ؛ لأنه مبني على المشاحَّة ، ولأن له مطالِباً بخلاف دَيْن
الله تعالى لأنه مبني على المسامحة فلا يعتبر إلا من الثلث لعدم المنازع فيه .
* وهناك قول ثالث روي عن ابن عمر والقاسم بن محمد وابن أبي ذئب ؛
حيث قالوا : لا يحج أحد عن أحد مطلقاً [20] . والأحاديث المذكورة حجة عليهم .
شروط الحج عن الغير [21] :
اشترط الفقهاء شروطاً للحج عن الغير ، نذكر أهمها :
1 - نية النائب عن الأصيل عند الإحرام ؛ لأن النائب يحج عن الأصيل لا
عن نفسه فلا بد من نيته ، كأن يقول : أحرمت عن فلان أو لبيك عن فلان . وهذا الشرط متفق
عليه .
2 - أن يكون الأصيل عاجزاً عن أداء الحج بنفسه وله مال ، فإن كان قادراً
على الأداء بأن كان صحيح البدن وله مال فلا يجوز حج غيره عنه باتفاق الجمهور غير المالكية
.
أما مالكية : فلم يجيزوا الحج عن الحي مطلقاً . وعليه : لا يجوز أن يستنيب في
الحج الواجب من يقدر على الحج بنفسه إجماعاً . وأجاز الجمهور الحج عن الميت ، لكن إذا
أوصى عند الحنفية والمالكية . وقال الشافعية والحنابلة : يجب الحج عنه إذا كان قادراً
ومات مفرطاً .
3 - أن يستمر العجز كالمرض إلى الموت . وهذا باتفاق الحنفية والشافعية ،
فلو زال العجز قبل الموت لم يجزئه حج النائب ؛ لأن جواز الحج عن الغير ثبت بخلاف القياس
لضرورة العجز الذي لا يُرجى برؤه ، فيتقيد الجواز به .
وقال الحنابلة : يجزئه ؛ لأنه أتى بما أمر به . فخرج عن العهدة كما لو لم
يزل عذره . وهذا أظهر .
4 - أن يُحْرِمَ على النحو الذي طالب به الأصيل . فلو اعتمر مثلاً وقد أمره
بالحج ، ثم حج من مكة ، لا يجوز عند الحنفية .
وكذا لو أوصى بالحج وحدد المال أو المكان ؛ فالأمر على ما حدده وعينه ؛
وإن لم يحدد شيئاً فالحج من بلد المنوب عنه ؛ لأن الحج وجب على الأصيل من بلده فوجب
أن ينوب عنه منه ، وهذا عند الحنفية والحنابلة . وقال الشافعية : يجب على النائب الحج
من ميقات الأصيل ؛ لأن الحج يجب من الميقات .
5 - يجب أن يكون النائب قد حج عن نفسه قبل الحج عن الغير عند الشافعية
والحنابلة لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول
: ( لبيك عن شبرمة ) قال : مَنْ شبرمة ؟ . قال : أخ لي ، أو قريب . قال : حججت عن نفسك
؟ قال : لا . قال : ( حجَّ عن نفسك ، ثم حج عن
شبرمة ) [22] .
ويجوز عند الحنفية مع الكراهة التحريمية الحج عن الغير قبل أن يحج الرجل
عن نفسه عملاً بإطلاق حديث ( الخثعمية ) المتقدم من غير استفسار عن سبقها
الحج عن نفسها .
وترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم المقال أو الخطاب ،
أما سبب الكراهة فهو أنه تارك فرض الحج .
وكذلك قال المالكية : يكره الحج عن الغير أي في حالة الوصية بالحج قبل أن
يحج عن نفسه ؛ بناءاً على أن الحج واجب على التراخي وإلا مُنع على القول بأنه على الفور
وهو المعتمد عندهم .
والقول الأول أرجح لحديث ( شبرمة ) ويحمل ترك الاستفصال في حديث
(الخثعمية) على علمه صلى الله عليه وسلم بأنها حجت عن نفسها أولاً وإن لم يروِ لنا
طريق علمه بذلك ؛ جمعاً بين الأدلة كلها كما قال الكمال ابن الهمام [23] .
هذه أهـم شروط الحج عن الغير ؛ والله تعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا
محمد وآله وسلم .
________________________
(1) رواه مسلم ، 9/101 ، وأحمد والنسائي وغيرهم .
(2) المغني لابن قدامة 3/178 ، 180 .
(3) تفسير القرطبي 4/150 .
(4) انظر سنن الترمذي 3/677 ، وشرح السنة ، 7/26 ، والمبسوط 4/ 148 ، وفتح القدير 2/309
، والمغني 3/177 ، وكشاف القناع 2/255 ، وزاد الشافعي : أنه إذا لم يجد مالاً يحج به
غيره ولكن وجد من يطيعه من ولده ونحوه فإن الحج يجب عليه كذلك انظر المجموع 7/74 75
، ومغني المحتاج 1/469 470 ، والمهذب 1/266 ، والغاية القصوى 1/431 .
(5) رواه البخاري 4/67 (على الفتح) ومسلم 9/97 98 (بشرح النووي) ، ومالك 2/267 ، وأحمد
3/313 ، و4/98 ، و5/420 ، وأبو داود 2/401 ، والترمذي 3/675 ، والنسائي 5/117 ، و8/228
.
(6) أخرجه الترمذي 3/678 ، وقال : حسن صحيح وأبو داود 2/402 ، والنسائي 5/117 .
(7) انظر شرح السنة 7/26 ، والمنتقى 2/269 ، والشرح الصغير 2/ 115 ، والكافي 1/357
.
(8) كما في المبسوط 4/153 ، وجعله المذهب وانظر البدائع 3/1085 ، وملتقى الأبحر 1/233
.
(9) المنتقى 2/269 ، وانظر القرطبي 4/151 .
(10) تفسير القرطبي 4/151 .
(11) تفسير القرطبي 4/152 ، وراجع فتح الباري 4/70 .
(12) بداية المجتهد 1/319 وانظر المجموع 7/75 .
(13) تفسير القرطبي 17/114 115 ، وانظر : ملتقى الأبحر 1/234 .
(14) انظر : سنن الترمذي 3/677 ، وشرح السنة 7/26 ، والتمهيد 9/ 136 ، والمجموع 7/87
، 90 ، ومغني المحتاج 1/468 ، والمغني 3/195 ، والإنصاف 3/ 409 ، والإقناع 1/344 .
(15) رواه البخاري 4/64 ، والنسائي بمعناه 5/117 .
(16) رواه النسائي 5/118 .
(17) المهذب 1/267 ، وراجع فتح الباري 4/66 .
(18) انظر التمهيد 9/136 ، والمحلى 7/53 ، وعمدة القارئ 10/213 214 ، وعند الحنفية
: لو مات رجل بعد وجوب الحج عليه ولم يوص به فيحج عنه رجل حجة الإسلام من غير وصية
، قالوا : يجزيه إنْ شاء الله لأنه إيصال ثواب وهو لا يختص بأمر من قريب أو بعيد ،
ذكره ابن عابدين في حاشيته 2/600 ، وراجع مختصر الطحاوي ص 59 .
(19) المنتقى 2/271 ، والشرح الصغير 2/15 ، والقرطبي 4/151 ، وعنده : إذا لم يوص فالصدقة
أفضل من استئجار من يحج عنه ، فإن حجّ أحد تطوعاً فله أجر الدعاء .
(20) المحلى 7/45 ، والمجموع 7/90 ، ومعالم السنن 2/401 ، وعمدة القارئ 9/213 .
(21) منع قوم من النحاة إدخال ( ال ) على ( غير وكل وبعض ) لأن هذه لا تتعرف بالإضافة
فلا تتعرف بالألف واللام ، قال ابن عابدين : إنها تدخل عليها ؛ لأنها هنا ليست للتعريف
ولكنها المعاقبة للإضافة رد المحتار 2/323 ، (نقلاً عن الفقه الإسلامي وأدلته 3/37)
.
(22) رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني (نيل الأوطار 4/292) .
(23) انظر فتح القدير 2/317 321و الشرح الصغير 2/15 ، ومغني المحتاج 1/470 ، وكشاف
القناع 2/462 ، وانظر الفقه الإسلامي وأدلته 3/49 55 .